فصل: تفسير الآية رقم (80)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 71‏]‏

‏{‏وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏69‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏70‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏ودّت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم‏}‏ أجمع المفسرون على أنها نزلت في‏:‏ معاذ، وحذيفة، وعمار‏.‏ دعاهم يهود‏:‏ بني النضير، وقريظة، وقينقاع، إلى دينهم‏.‏ وقيل‏:‏ دعاهم جماعة من أهل نجران ومن يهود وقال ابن عباس‏:‏ هم اليهود، قالوا لمعاذ وعمار تركتما دينكما واتبعتما دين محمد، فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ عيرتهم اليهود بوقعة أحد‏.‏

وقال أبو مسلم الأصبهاني‏:‏ ودّ بمعنى‏:‏ تمنى، فتستعمل معها‏:‏ لو، و‏:‏ أن، وربما جمع بينهما، فيقال‏:‏ وددت أن لو فعل، ومصدره‏:‏ الودادة، والأسم منه‏:‏ وُدّ، وقد يتداخلان في المصدر والاسم‏.‏ قال الراغب‏:‏ إذا كان‏:‏ ودّ، بمعنى أحبّ لا يجوز إدخال‏:‏ لو فيه أبداً‏.‏ وقال عليّ بن عيسى‏:‏ إذا كان‏:‏ ودّ، بمعنى‏:‏ تمنى، صلح للماضي والحال والمستقبل، وإذا كان بمعنى المحبة والإرادة لم يصلح للماضي لأن الإرادة كاستدعاء الفعل‏.‏ وإذا كان للحال والمستقبل جاز‏:‏ أن ولو، وإذا كان للماضي لم يجز‏:‏ أن، لأن‏:‏ أن، للمستقبل‏.‏ وما قال فيه نظر، ألا ترى أن‏:‏ أن، توصل بالفعل الماضي نحو‏:‏ سرّني أن قمت‏؟‏‏.‏

‏{‏من أهل الكتاب‏}‏ في موضع الصفة لطائفة، والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل‏:‏ من، أن تكون لبيان الجنس، وتكون الطائفة جميع أهل الكتاب، وما قاله يبعد من دلالة اللفظ، ولو، هنا قالوا بمعنى‏:‏ أن فتكون مصدرية، ولا يقول بذلك جمهور البصريين، والأولى إقرارها على وضعها‏.‏ ومفعول‏:‏ ودّ، محذوف، وجواب‏:‏ لو، محذوف، حذف من كلٍّ من الجملتين ما يدل المعنى عليه، التقدير‏:‏ ودّوا إضلالكم لو يضلونكم لسرّوا بذلك، وقد تقدم لنا الكلام في نظير هذا مشبعاً في قوله‏:‏ ‏{‏يود أحدهم لو يعمر ألف سنة‏}‏ فيطالع هناك‏.‏

ومعنى‏:‏ يضلونكم، يردّونكم إلى كفركم، قاله ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ يهلكونكم، قاله ابن جرير، والدمشقي‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ واستدل يعني ابن جرير الطبري ببيت جرير‏:‏

كنت القذى في موج أخضر مزبد *** قذف الأتيّ به فضلّ ضلالا

وبقول النابغة‏:‏

فآب مضلُّوه بعين جلية *** وغودر بالجولان حزم ونائل

وهو تفسير غير مخلص ولا خاص باللفظة، وإنما اطرد له، لأن هذا الضلال في الآية في البيتين اقترن به هلاك، وأمّا أن يفسر لفظة الضلال بالهلاك فغير قويم‏.‏ إنتهى‏.‏

وقال غير أبن عطية أضلّ الضلال في اللغة الهلاك من قولهم‏:‏ ضل اللبن في الماء، إذا صار مستهلكاً فيه‏.‏ وقيل‏:‏ معناه يوقعونكم في الضلال، ويلقون إليكم ما يشككونكم به في دينكم، قاله أبو علي‏.‏

‏{‏وما يضلون إلاَّ أنفسهم‏}‏ إن كان معناه الإهلاك فالمعنى أنهم يهلكون أنفسهم وأشياعهم، لاستحقاقهم بإيثارهم إهلاك المؤمنين سخط الله وغضبه، وإن كان المعنى الإخراج عن الدين فذلك حاصل لهم بجحد نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتغيير صفته صاروا بذلك كفاراً، وخرجوا عن ملة موسى وعيسى‏.‏

وإن كان المعنى الإيقاع في الضلال، فذلك حاصل لهم مع تمكنهم من اتباع الهدى بإيضاح الحجج وإنزال الكتب وإرسال الرسل‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ إعلام أن سوء فعلهم عائد عليهم، وأنه يبعدهم عن الإسلام‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وما يعود وبال الضلال إلاَّ عليهم، لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم، أو‏:‏ وما يقدرون على إضلال المسلمين، وإنما يضلون أمثالهم من أشياعهم‏.‏ إنتهى‏.‏

‏{‏وما يشعرون‏}‏ أن ذلك الضلال هو مختص بهم أي‏:‏ لا يفطنون لذلك لما دق أمره وخفي عليهم لما اعترى قلوبهم من القساوة، فهم لا يعلمون أنهم يضلون أنفسهم‏.‏ ودل ذلك على أن من أخطأ الحق جاهلاً كان ضالاً، أو ‏{‏وما يشعرون‏}‏ أنهم لا يصلون إلى إضلالكم، أو‏:‏ لا يفطنون بصحة الإسلام، وواجب عليهم أن يعلموا لظهور البراهين والحجج، ذكره القرطبي‏.‏ أو‏:‏ ما يشعرون أن الله يدل المسلمين على حالهم، ويطلعهم على مكرهم وضلالتهم، ذكره ابن الجوزي‏.‏

وفي قوله‏:‏ ما يشعرون، مبالغة في ذمهم حيث فقدوا المنفعة بحواسهم‏.‏

‏{‏قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هي التوراة والإنجيل وكفرهم بها من جهة تغيير الأحكام، وتحريف الكلام أو الآيات التي في التوراة والإنجيل من وصف النبي صلى الله عليه وسلم، والإيمان به، كما بين في قوله‏:‏ ‏{‏يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل‏}‏ قاله قتادة، والسدي، والربيع، وابن جريح‏.‏ أو‏:‏ القرآن من جهة قولهم‏:‏ ‏{‏إنما يعلمه بشر‏}‏ ‏{‏إن هذا إلا إفك‏}‏ ‏{‏أساطير الأولين‏}‏ والآيات التي أظهرها على يديه من‏:‏ انشقاق القمر، وحنين الجذع، وتسبيح الحصى، وغير ذلك‏.‏ أو‏:‏ محمد والإسلام، قاله قتادة، أو‏:‏ ما تلاه من أسرار كتبهم وغريب أخبارهم، قاله ابن بحر أو‏:‏ كتب الله، أو‏:‏ الآيات التي يبين لهم فيها صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وصحة نبوّته، وأمروا فيها باتباعه، قاله ابو علي‏.‏

‏{‏وأنتم تشهدون‏}‏ جملة حالية أنكر عليهم كفرهم بآيات الله وهم يشهدون أنها آيات الله، ومتعلق الشهادة محذوف، يقدّر على حسب تفسير الآيات، فيقدّر بما يناسب ما فسرت به، فلذلك قال قتادة، والسدي، والربيع‏:‏ وأنتم تشهدون بما يدل على صحتها من كتابكم الذي فيه البشارة‏.‏

وقيل‏:‏ تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي تقرون بها، وقيل‏:‏ بما عليكم فيه من الحجة‏.‏ وقيل‏:‏ إن كتبكم حق، ولا تتبعون ما أنزل فيها‏.‏ وقيل‏:‏ بصحتها إذا خلوتم‏.‏

فيكون‏:‏ تشهدون، بمعنى‏:‏ تقرون وتعترفون‏.‏ وقال الراغب‏:‏ أو عنى ما يكون من شهادتهم ‏{‏يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم‏}‏

وقيل‏:‏ تكفرون بآيات الله‏:‏ تنكرون كون القرآن معجزاً، ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم أنه معجز‏.‏

‏{‏يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون‏}‏ تقدّم تفسير مثل هذا في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تلبسوا الحق بالباطل‏}‏ وفسر‏:‏ اللبس، بالخلط والتغطية، وتكلم المفسرون هنا، ففسروا الحق بما يجدونه في كتبهم من صفة الرسول، والباطل الذي يكتبونه بأيديهم ويحرفونه‏:‏ قال معناه الحسن، وابن زيد‏.‏

وقيل‏:‏ إظهار الإسلام وإبطال اليهودية والنصرانية، قال قتادة، وابن جرير والثعلبي‏.‏ وقيل‏:‏ الإيمان بموسى وعيسى، والكفر بالرسول‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ يتأولون الآيات التي فيها الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم على خلاف تأويلها، ليظهر منها للعوامّ خلاف ما هي عليه، وأنتم تعلمون بطلان ما تقولون‏.‏

وقيل‏:‏ هو ما ذكره تعالى بعد ذلك من قوله‏:‏ ‏{‏آمنوا بالذي أنزل‏}‏ وقيل‏:‏ إقرارهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والباطل‏:‏ كتمانهم لبعض أمره، وهذان القولان عن ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ إقرارهم بنبوته ورسالته، والباطل قول أحبارهم‏:‏ ليس رسولاً الينا، بل شريعتنا مؤبدة‏.‏

وقرأ يحيى بن وثاب‏:‏ تلبسون، بفتح الباء مضارع‏:‏ لبس، جعل الحق كأنه ثوب لبسوه، والباء في‏:‏ بالباطل، للحال أي‏:‏ مصحوباً بالباطل‏.‏

وقرأ أبو مجلز‏:‏ تلبسون، بضم التاء وكسر الباء المشدّدة، والتشديد هنا للتكثير، كقولهم‏:‏ جرّحت وقتلت، وأجاز الفراء، والزجاج في‏:‏ ويكتمون، النصب، فتسقط النون من حيث العربية على قولك‏:‏ لم تجمعون ذا وذا‏؟‏ فيكون نصباً على الصرف في قول الكوفيين، وبإضمار‏:‏ أن، في قول البصريين‏.‏ وأنكر ذلك أبو علي، وقال‏:‏ الإستفهام وقع على اللبس فحسب‏.‏

وأما‏:‏ يكتمون، فخبر حتماً لا يجوز فيه إلاَّ الرفع بمعنى أنه ليس معطوفاً على‏:‏ تلبسون، بل هو استئناف، خبر عنهم أنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق، وقال ابن عطية‏:‏ قال أبو علي‏:‏ الصرف ها هنا يقبح، وكذلك إضمار‏:‏ أن، لأن‏:‏ يكتمون، معطوف على موجب مقرر، وليس بمستفهم عنه، وإنما استفهم عن السبب في اللبس، واللبس موجب، فليست الآية بمنزلة قولهم‏:‏ لا تأكل السمك وتشرب اللبن، وبمنزلة، قولك‏:‏ أتقوم فأقوم‏؟‏ والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب، إلاَّ في ضرورة شعر، كما روي‏:‏

والحق بالحجاز فاستريحا *** وقد قال سيبويه‏:‏ في قولك‏:‏ أسرت حتى تدخلها، لا يجوز إلاَّ النصب، في‏:‏ تدخل، لأن السير مستفهم عنه غير موجب‏.‏ وإذا قلنا‏:‏ أيهم سار حتى يدخلها، رفعت، لأن السير موجب، والاستفهام إنما وقع عن غيره‏.‏ إنتهى ما نقله ابن عطية عن أبي علي‏.‏

والظاهر تعارض ما نقل مع ما قبله، لأن ما قبله فيه‏:‏ أن الاستفهام وقع على اللبس فحسب، وأما‏:‏ يكتمون، فخبر حتماً لا يجوز فيه إلاّ الرفع، وفيما نقله ابن عطية أن‏:‏ يكتمون، معطوف على موجب مقرر، وليس بمستفهم عنه، فيدل العطف على اشتراكهما في الإستفهام عن سبب اللبس وسبب الكتم الموجبين، وفرق بين هذا المعنى وبين أن يكون‏:‏ ويكتمون، إخباراً محضاً لم يشترك مع اللبس في السؤال عن السبب، وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أن الإستفهام إذا تضمن وقوع الفعل لا ينتصب الفعل بإضمار أن في جوابه، تبعه في ذلك ابن مالك‏.‏

فقال في ‏(‏التسهيل‏)‏ حين عد ما يضمر‏:‏ أن، لزوماً في الجواب، فقال‏:‏ أو لإستفهام لا يتضمن وقوع الفعل، فإن تضمن وقع الفعل لم يجز النصب عنده، نحو‏:‏ لم ضربت زيداً، فيجازيك‏؟‏ لأن الضرب قد وقع ولم نر أحداً من أصحابنا يشترط هذا الشرط الذي ذكره أبو علي، وتبعه فيه ابن مالك في الإستفهام، بل إذا تعذر سبك مصدر مما قبله، إما لكونه ليس ثم فعل، ولا ما في معناه ينسبك منه، وإما لإستحالة سبك مصدر مراد استقباله لأجل مضي الفعل، فإنما يقدر فيه مصدر استقباله مما يدل عليه المعنى، فإذا قال‏:‏ لم ضربت زيداً فأضربك‏.‏ أي‏:‏ ليكن منك تعريف بضرب زيد فضرب منا، وما ردّ به أبو عليّ على أبي إسحاق ليس بمتجه‏.‏ لأن قوله‏:‏ ‏{‏لم تلبسون‏}‏ ليس نصاً على أن المضارع أريد به الماضي حقيقة، إذ قد ينكر المستقبل لتحقق صدوره، لا سيما على الشخص الذي تقدم منه وجود أمثاله‏.‏ ولو فرضنا أنه ماض حقيقة، فلا ردّ فيه على أبي إسحاق، لأنه كما قررنا قبل‏:‏ إذا لم يمكن سبك مصدر مستقبل من الجملة، سبكناه من لازم الجملة‏.‏

وقد حكى أبو الحسن بن كيسان نصب الفعل المستفهم عنه محقق الوقوع، نحو‏:‏ أين ذهب زيد فنتبعه‏؟‏ وكذلك في‏:‏ كم مالك فنعرفه‏؟‏ و‏:‏ من أبوك فنكرمه‏؟‏ لكنه يتخرج على ما سبق ذكره من أن التقدير‏:‏ ليكن منك إعلام بذهاب زيد فاتباع منا‏.‏ و‏:‏ ليكن منك إعلام بقدر مالك فمعرفة منا‏.‏ و‏:‏ ليكن منك إعلام بأبيك فاكرام منا له‏.‏

وقرأ عبيد بن عمير‏:‏ لم تلبسوا، وتكتموا، بحذف النون فيهما، قالوا‏:‏ وذلك جزم، قالوا‏:‏ ولا وجه له سوى ما ذهب إليه شذوذ من النحاة في إلحاق‏:‏ لِمَ بلم في عمل الجزم‏.‏ وقال السجاوندي‏:‏ ولا وجه له إلاَّ أن‏:‏ لم، تجزم الفعل عند قوم كلم‏.‏ إنتهى‏.‏ والثابت في لسان العرب أن‏:‏ لِمَ، لا ينجزم ما بعدها، ولم أر أحداً من النحويين ذكر أن لِمَ تجري مجرى‏:‏ لَمْ في الجزم إلا ما ذكره أهل التفسير هنا، وإنما هذا عندي من باب حذف النون حالة الرفع، وقد جاء ذلك في النثر قليلاً جداً، وذلك في قراءة أبي عمرو، ومن بعض طرقه قالوا‏:‏ ساحران تظاهرا، بتشديد الظاء، أي أنتما ساحران تتظاهرن فأدغم التاء في الظاء وحذف النون، وأما في النظم، فنحو‏:‏ قول الراجز‏:‏

أبيت أسرى وتبيتي تدلكي *** يريد‏:‏ وتبيتين تدلكين‏.‏ وقال‏:‏

فإن يك قوم سرهم ما صنعتمو *** ستحتلبوها لاقحاً غير باهل

والظاهر أنه أنكر عليهم لبس الحق بالباطل، وكتم الحق، وكأن الحق منقسم إلى قسمين‏:‏ قسم خلطوا فيه الباطل حتى لا يتميز، وقسم كتموه بالكلية حتى لا يظهر‏.‏

‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏ جملة حالية تنعي عليهم ما التبسوا به من لبس الحق بالباطل وكتمانه، أي‏:‏ لا يناسب من علم الحق أن يكتمه، ولا أن يخلطه بالباطل، والسؤال عن السبب سؤال عن المسبب، فإذا أنكر السبب فبالأولى أن ينكر المسبب، وختمت الآية قبل هذه بقوله‏:‏ ‏{‏وأنتم تشهدون‏}‏ وهذه بقوله‏:‏ ‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏ لأن المنكر عليهم في تلك هو الكفر بآيات الله، وهي أخص من الحق، لأن آيات الله بعض الحق، والشهادة أخص من العلم، فناسب الأخص الأخص، وهنا الحق أعم من الآيات وغيرها، والعلم أعم من الشهادة، فناسب الأعم الأعم‏.‏

وقالوا في قوله‏:‏ ‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏ أي‏:‏ إنه نبي حق، وإن ما جاء به من عند الله حق‏.‏ وقيل‏:‏ قال‏:‏ ‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏ ليتبين لهم الأمر الذي يصح به التكليف، ويقوم عليهم به الحجة‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏ الحق بما عرفتموه من كتبكم وما سمعتموه من ألسنة أنبيائكم‏.‏

وفي هذه الآيات أنواع من البديع‏.‏ الطباق في قوله‏:‏ الحق بالباطل، والطباق المعنوي في قوله‏:‏ لم تكفرون وأنتم تشهدون، لأن الشهادة إقرار وإظهار، والكفر ستر‏.‏ والتجنيس المماثل في‏:‏ يضلونك وما يضلون والتكرار في‏:‏ أهل الكتاب‏.‏ والحذف في مواضع قد بينت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 74‏]‏

‏{‏وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏72‏)‏ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون‏}‏ قال الحسن، والسدي‏:‏ تواطأ اثنا عشر حبراً من يهود خيبر وقرى عرينة، وقال بعضهم لبعض‏:‏ ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد، واكفروا به في آخر النهار، وقولوا إنا نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فوجدنا محمداً ليس كذلك، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم، وقالوا‏:‏ هم أهل الكتاب فهم أعلم منا، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم، فنزلت‏.‏

وقال مجاهد، ومقاتل، والكلبي‏:‏ هذا في شأن القبلة، لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود، فقال كعب بن الأشرف وأصحابه‏:‏ صلوا إليها أول النهار، وارجعوا إلى كعبتكم الصخرة آخره، فنزلت‏.‏

وقال ابن عباس، ومجاهد‏:‏ صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، ثم ارجعوا آخر النهار فصلوا صلاتهم ليرى الناس أنه قد بدت لهم منه ضلالة بعد أن كانوا اتبعوه، فنزلت‏.‏

وقال السدي‏:‏ قالت اليهود لسفلتهم‏:‏ آمنوا بمحمد أول النهار، فإذا كان بالعشي قولوا‏:‏ قد عرفنا علماؤنا أنكم لستم على شيء، فنزلت‏.‏

وحكى ابن عطية، عن الحسن‏:‏ أن يهود خيبر قالت ذلك ليهود المدينة‏.‏ انتهى‏.‏ جعلت اليهود هذا سبباً إلى خديعة المسلمين‏.‏

والمقول لهم محذوف، فيحتمل أن يكون بعض هذه الطائفة لبعض، ويحتمل أن يكون المقول لهم ليسوا من هذه الطائفة، والمراد‏:‏ بآمنوا، أظهروا الإيمان، ولا يمكن أن يراد به التصديق، وفي قوله‏:‏ ‏{‏بالذي أنزل على الذين آمنوا‏}‏ حذف أي‏:‏ على زعمهم، وإلاَّ فهم يكذبون، ولا يصدقون أن الله أنزل شيئاً على المؤمنين‏.‏

وانتصب‏:‏ وجه النهار، على الظرف ومعناه‏:‏ أول النهار، شبه بوجه الإنسان إذ هو أول ما يواجه منه‏.‏

وقال الربيع بن زياد العبسي في مالك بن زهير بن خزيمة العبسي‏:‏

من كان مسروراً بمقتل مالك *** فليأت نسوتنا بوجه نهار

والضمير في‏:‏ آخره، عائد على النهار، أي‏:‏ آخر النهار‏.‏

والناصب للظرف الأول‏:‏ آمنوا، وللآخر‏:‏ اكفروا‏.‏ وقيل‏:‏ الناصب لقوله‏:‏ وجه النهار، أنزل‏.‏ أي‏:‏ بالذي أنزل على الذين آمنوا في أول النهار، والضمير في‏:‏ آخره، يعود على الذي أنزل، أي‏:‏ واكفروا آخر المنزل، وهذا فيه بعد ومخالفة لأسباب النزول، ومتعلق الرجوع محذوف أي‏:‏ يرجعون عن دينهم‏.‏

وظاهر الآية الدلالة على هذا القول، وأما امتثال الأمر ممن أمر به فسكوت عن وقوعه، وأسباب النزول تدل على وقوعه، وهذا القول طمعوا أن ينخدع العرب به، أو يقول قائلهم‏:‏ هؤلاء أهل الكتاب القديم وجودة النظر والإطلاع، دخلوا في هذا الأمر ورجعوا عنه، وفيه تثبيت أيضاً لضعفائهم على دينهم‏.‏

‏{‏ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم‏}‏ اللام في‏:‏ لمن، قيل‏:‏ زائدة للتأكيد، كقوله

‏{‏عسى أن يكون ردف لكم‏}‏ أي ردفكم، وقال الشاعر‏:‏

ما كنت أخدع للخليل بحله *** حتى يكون لي الخليل خدوعاً

أراد‏:‏ ما كنت أخدع الخليل، والأجود أن لا تكون‏:‏ اللام، زائدة بل ضمن، آمن معنى‏:‏ أقر واعترف، فعدى باللام‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ وقد تعدّى آمن باللام في قوله ‏{‏فما آمن لموسى إلا ذرية‏}‏ ‏{‏وآمنتم له‏}‏ ‏{‏ويؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين‏}‏ انتهى‏.‏ والأجود ما ذكرناه من جملة قول طائفة اليهود، لأنه معطوف على كلامهم، ولذلك قال ابن عطية‏:‏ لا خلاف بين أهل التأويل أن هذا القول من كلام الطائفة‏.‏ انتهى‏.‏ وليس كذلك، بل من المفسرين من ذهب إلى أن ذلك من كلام الله، يثبت به قلوب المؤمنين لئلا يشكوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم، فأما إذا كان من كلام طائفة اليهود، فالظاهر أنه انقطع كلامهم إذ لا خلاف، ولا شك أن قوله‏:‏ ‏{‏قل ان الهدى هدى الله‏}‏ من كلام الله مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم، وما بعده يظهر أنه من كلام الله، وأنه من جملة قوله لنبيه وأن يؤتى مفعول من أجله، وتقدير الكلام‏:‏ قل يا محمد لأولئك اليهود الذين قالوا‏:‏ إن الهدى هدى الله، لا ما رمتم من الخداع بتلك المقالة، وذاك الفعل، لمخافة ‏{‏أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم‏}‏ قلتم ذلك القول ودبرتم تلك المكيدة، أي‏:‏ فعلتم ذلك حسداً وخوفاً من أن تذهب رئاستكم، ويشارككم أحد فيما أوتيتم من فضل العلم، أو يحاجوكم عند ربكم، أي‏:‏ يقيمون الحجة عليكم عند الله إذ كتابكم طافح، بنبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وملزم لكم أن تؤمنوا به وتتبعوه، ويؤيد هذا المعنى قوله‏:‏ ‏{‏قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء‏}‏ إلى آخره، ويؤيد هذا المعنى أيضاً قراءة ابن كثير أن يؤتى على الاستفهام الذي معناه الإنكار عليهم والتقرير والتوبيخ والاستفهام الذي معناه الإنكار هو مثبت من حيث المعنى، أي ألمخافة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم‏؟‏ أو يحاجوكم عند ربكم قلتم ذلك وفعلتموه‏؟‏ ويكون‏:‏ أو يحاجوكم، معطوفاً على‏:‏ يؤتى، وأو‏:‏ للتنويع، وأجازوا أن يكون‏:‏ هدى الله، بدلاً من‏:‏ الهدى‏.‏ لا خبراً لأن‏.‏ والخبر قوله‏:‏ ‏{‏أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم‏}‏ أي أن هدى الله إيتاء أحد مثل ما أوتيتم من العلم، ويكون‏:‏ أو يحاجوكم، منصوباً بإضمار‏:‏ أن، بعد أو بمعنى‏:‏ حتى، أي‏:‏ حتى يحاجوكم عند ربكم فيغلبوكم ويدحضوا حجتكم عند الله، لأنكم تعلمون صحة دين الإسلام، وأنه يلزمكم اتباع هذا النبي، ولا يكون‏:‏ أو يحاجوكم، معطوفاً على‏:‏ يؤتى، وداخلاً في خبر إن، و‏:‏ أحد، في هذين القولين ليس الذي يأتي في العموم مختصاً به، لأن ذلك شرطه أن يكون في نفي، أو في خبر نفي، بل‏:‏ أحد، هنا بمعنى‏:‏ واحد، وهو مفرد، إذ عنى به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما جمع الضمير في‏:‏ يحاجوكم، لأنه عائد على الرسول وأتباعه، لأن الرسالة تدل على الأتباع‏.‏

وقال بعض النحويين‏:‏ إن، هنا للنفي بمعنى‏:‏ لا، التقدير‏:‏ لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ونقل ذلك أيضاً عن الفراء، وتكون‏:‏ أو، بمعنى إلاَّ، والمعنى إذ ذاك‏:‏ لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلاَّ أن يحاجوكم، فإن إيتاءه ما أوتيتم مقرون بمغالبتكم ومحاجتكم عند ربكم، لأن من آتاه الله الوحي لا بد أن يحاجهم عند ربهم في كونهم لا يتبعونه، فقوله‏:‏ أو يحاجوكم، حال من جهة المعنى لازمة، إذ لا يوحي الله إلى رسول إلاَّ وهو محاج مخالفيه‏.‏ وفي هذا القول يكون، أحد، هو الذي للعموم‏.‏ لتقدّم النفي عليه، وجمع الضمير في‏:‏ يحاجوكم، حملاً على معنى‏:‏ أحد، كقوله تعالى ‏{‏فما منكم من أحد عنه حاجزين‏}‏ جمع حاجزين حملاً على معنى‏:‏ أحد، لا على لفظه، إذ لو حمل على لفظه لأفرد‏.‏

لكن في هذا القول القول بأن‏:‏ أن، المفتوحة تأتي للنفي بمعنى لا، ولم يقم على ذلك دليل من كلام العرب‏.‏ والخطاب في‏:‏ أوتيتم، وفي‏:‏ يحاجوكم، على هذه الأقوال الثلاثة للطائفة السابقة، القائلة‏:‏ ‏{‏آمنوا بالذي أنزل‏}‏ وأجاز بعض النحويين أن يكون المعنى‏:‏ أن لا يؤتى أحد، وحذفت‏:‏ لا، لأن في الكلام دليلاً على الحذف‏.‏ قال كقوله‏:‏ ‏{‏يبين الله لكم أن تضلوا‏}‏ أي‏:‏ أن لا تضلوا‏.‏ وردّ ذلك أبو العباس، وقال‏:‏ لا تحذف‏:‏ لا، وإنما المعنى‏:‏ كراهة أن تضلوا، وكذلك هنا‏:‏ كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أي‏:‏ ممن خالف دين الإسلام، لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار، فهدى الله بعيد من غير المؤمنين‏.‏

والخطاب في‏:‏ أوتيتم، و‏:‏ يحاجوكم، لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا‏:‏ أن يؤتى مفعول من أجله على حذف كراهة، ويحتاج إلى تقدير عامل فيه، ويصعب تقديره، إذ قبله جملة لا يظهر تعليل النسبة فيها بكراهة الإيتاء المذكور‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يكون قوله‏:‏ أن يؤتى، بدلا من قوله‏:‏ هدى الله، ويكون المعنى‏:‏ قل إن الهدى هدى الله وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن‏.‏ ويكون قوله‏:‏ أو يحاجوكم، بمعنى‏:‏ أو فليحاجوكم، فإنهم يغلبونكم‏.‏ انتهى هذا القول‏.‏ وفيه الجزم بلام الأمر وهي محذوفة ولا يجوز ذلك على مذهب البصريين إلاَّ في الضرورة‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن ينتصب‏:‏ أن يؤتى، بفعل مضمر يدل عليه قوله ‏{‏ولا تؤمنوا إلاَّ لمن تبع دينكم‏}‏ كأنه قيل‏:‏ ‏{‏قل إن الهدى هدى الله‏}‏ فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا‏.‏ انتهى كلامه‏.‏ وهو بعيد، لأن فيه حذف حرف النهي ومعموله، ولم يحفظ ذلك من لسانهم‏.‏ وأجازوا أن يكون قوله ‏{‏أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم‏}‏ ليس داخلاً تحت قوله‏:‏ قل، بل هو من تمام قول الطائفة، متصل بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم‏}‏ ويكون قوله‏:‏ ‏{‏قل إن الهدى هدى الله‏}‏ جملة اعتراضية بين ما قبلها وما بعدها‏.‏

ويحتمل هذا القول وجوها‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون المعنى‏:‏ ولا تصدّقوا تصديقاً صحيحاً وتؤمنوا إلاَّ لمن جاء بمثل دينكم، مخافة أن يؤتى أحد من النبوّة والكرامة مثل ما أوتيتم، ومخافة أن يحاجوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم يستمروا عليه، وهذا القول، على هذا المعنى، ثمرة الحسد والكفر مع المعرفة بصحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

الثاني‏:‏ أن يكون التقدير‏:‏ أن لا يؤتى، فحذفت‏:‏ لا، لدلالة الكلام، ويكون ذلك منتفياً داخلاً في حيز‏:‏ إلاَّ، لا مقدراً دخوله قبلها، والمعنى‏:‏ ولا تؤمنوا لأحد بشيء إلاَّ لمن تبع دينكم، بانتفاء أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، وانتفاء أن يحاجوكم عند ربكم أي‏:‏ إلاَّ بانتفاء كذا‏.‏

الثالث‏:‏ أن يكون التقدير‏:‏ بأن يؤتى، ويكون متعلقاً بتؤمنوا، ولا يكون داخلاً في حيز إلاَّ، والمعنى‏:‏ ولا تؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلاَّ لمن تبع دينكم، وجاء بمثله، وعاضداً له، فإن ذلك لا يؤتاه غيركم‏.‏ ويكون معنى‏:‏ ‏{‏أو يحاجوكم عند ربكم‏}‏ بمعنى‏:‏ إلاَّ أن يحاجوكم، كما تقول‏:‏ أنا لا أتركك أو تقضيني حقي، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة التكذيب لمحمد صلى الله عليه وسلم، على اعتقاد أن النبوّة لا تكون إلاَّ في بني إسرائيل‏.‏

الرابع‏:‏ أن يكون المعنى‏:‏ لا تؤمنوا بمحمد وتقروا بنبوّته إذ قد علمتم صحتها إلاَّ لليهود الذين هم منكم، و‏{‏أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم‏}‏ صفة لحال محمد صلى الله عليه وسلم، فالمعنى‏:‏ تستروا بإقراركم أن قد أوتي أحد مثل أوتيتم، أو فإنهم يعنون العرب، يحاجونكم بالإقرار عند ربكم‏.‏ وقال الزمخشري في هذا الوجه، وبدأ به ما نصه‏:‏ ولا تؤمنوا، متعلق بقوله‏:‏ أن يؤتى أحد، و‏:‏ ما بينهما اعتراض، أي‏:‏ ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلاَّ لأهل دينكم دون غيرهم، أرادوا‏:‏ أسِرُّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا لأشياعكم وحدهم دون المسلمين، لئلا يزيدوا ثباتاً، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام‏:‏ ‏{‏أو يحاجوكم عند ربكم‏}‏ عطف على ‏{‏أن يؤتى‏}‏ والضمير في‏:‏ يحاجوكم، لأحدَ لأنه في معنى الجميع بمعنى‏:‏ ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق، ويغالبونكم عند الله بالحجة‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وأما‏:‏ أحد، على هذه الأقوال فإن كان الذي للعموم، وكان ما قبله مقدراً بالنفي، كقول بعضهم أن المعنى‏:‏ لا يؤتى، أو‏:‏ إن المعنى‏:‏ أن لا يؤتى أحد، فهو جار على المألوف في لسان العرب من أنه لا يأتي إلاَّ في النفي أو ما أشبه النفي‏:‏ كالنهي، وإن كان الفعل مثبتاً يدخل هنا لأنه تقدم النفي في أول الكلام، كما دخلت من في قوله‏:‏

‏{‏أن ينزل عليكم من خير‏}‏ للنفي قبله في قوله‏:‏ ‏{‏ما يودّ‏}‏

ومعنى الاعتراض على هذه الأوجه أنه أخبر تعالى بأن ما راموا من الكيد والخداع بقولهم‏:‏ ‏{‏آمنوا بالذي أنزل‏}‏ الآية، لا يجدي شيئاً، ولا يصدّ عن الإيمان من أراد الله إيمانه، لأن الهدى هو هدى الله، فليس لأحد أن يحصله لأحد، ولا أن ينفيه عن أحد‏.‏

وقرأ ابن كثير‏:‏ أن يؤتى أحد‏؟‏ بالمدّ على الاستفهام، وخرجه أبو عليّ على أنه من قول الطائفة، ولا يمكن أن يحمل على ما قبله من الفعل، لأن الإستفهام قاطع، فيكون في موضع رفع على الإبتداء وخبره محذوف تقديره تصدّقون به، أو تعترفون، أو تذكرونه لغيركم، ونحوه مما يدل عليه الكلام‏.‏ و‏:‏ يحاجوكم، معطوف على‏:‏ أن يؤتى‏.‏

قال أبو علي‏:‏ ويجوز أن يكون موضع‏:‏ أن، نصباً، فيكون المعنى‏:‏ أتشيعون، أو‏:‏ أتذكرون أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم‏؟‏ ويكون بمعنى‏:‏ أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم‏؟‏ فعلى كلا الوجهين معنى الآية توبيخ من الأحبار للاتباع على تصديقهم بأن محمداً نبي مبعوث، ويكون‏:‏ أو يحاجوكم، في تأويل نصب أن بمعنى‏:‏ أو تريدون أن يحاجوكم‏؟‏‏.‏

قال أبو عليّ وأحد، على قراءة ابن كثير هو الذي لا يدل على الكثرة، وقد منع الإستفهام القاطع من أن يشيع لامتناع دخوله في النفي الذي في أول الكلام، فلم يبق إلاَّ أنه‏:‏ أحد، الذي في قولك‏:‏ أحد وعشرون، وهو يقع في الإيجاب، لأنه في معنى‏:‏ واحد، وجمع ضميره في قوله‏:‏ أو يحاجوكم، حملاً على المعنى، إذ‏:‏ لأحد، المراد بمثل النبوّة أتباع فهو في المعنى للكثرة قال أبو عليّ‏:‏ وهذا موضع ينبغى أن ترجح فيه قراءة غير ابن كثير على قراءة ابن كثير، لأن الأسماء المفردة ليس بالمستمر أن يدل على الكثرة‏.‏ انتهى تخريج أبي علي لقراءة ابن كثير، وقد تقدم تخريج قراءته على أن يكون قوله‏:‏ أن يؤتى، مفعولاً من أجله، على أن يكون داخلاً تحت القول من قول الطائفة، وهو أظهر من جعله من قول الطائفة‏.‏

وقد اختلف السلف في هذه الآية، فذهب السدّي وغيره إلى أن الكلام كله من قوله‏:‏ ‏{‏قل ان الهدى هدى الله‏}‏ إلى آخر الآية مما أمر الله به محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقوله لأمّته‏.‏

وذهب قتادة، والربيع‏:‏ إلى أن هذا كله من قول الله، أمره أن يقوله للطائفة التي قالت‏:‏ ‏{‏ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم‏}‏ وذهب مجاهد وغيره إلى أن قوله ‏{‏أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم‏}‏ كله من قول الطائفة لأتباعهم، وقوله ‏{‏قل إن الهدى هدى الله‏}‏ اعتراض بين ما قبله وما بعده من قول الطائفة لأتباعهم‏.‏

وذهب ابن جريج إلى أن قوله‏:‏ ‏{‏أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم‏}‏ داخل تحت الأمر الذي هو‏:‏ قل، يقوله الرسول لليهود، وتم مقوله في قوله‏:‏ أوتيتم‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏أو يحاجوكم عند ربكم‏}‏ فهو متصل بقول الطائفة ‏{‏ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم‏}‏ وعلى هذه، الانحاء ترتيب الأوجه السابقة‏.‏

وقرأ الأعمش وشعيب بن أبي حمزة‏:‏ إن يؤتى، بكسر الهمزة بمعنى‏:‏ لم يعط أحد مثل ما أعطيتم من الكرامة، وهذه القراءة يحتمل أن يكون الكلام خطاباً من الطائفة القائلة‏؟‏ ويكون قولها‏:‏ أو يحاجوكم، بمعنى‏:‏ أو، فليحاجوكم، وهذا على التصميم على أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتي، أو يكون بمعنى‏:‏ إلاَّ أن يحاجوكم، وهذا على تجويز‏:‏ أن يؤتى، أحد ذلك إذا قامت الحجة له‏.‏ هذا تفسير ابن عطية لهذه القراءة، وهذا على أن يكون من قول الطائفة‏.‏

وقال أيضاً في تفسيرها‏:‏ كأنه صلى الله عليه وسلم يخبر أمّته أن الله لا يعطي أحداً، ولا أعطى فيما سلف مثل ما أعطى أمّة محمد من كونها وسطاً، فهذا التفسير على أنه من كلام محمد صلى الله عليه وسلم لأمّته، ومندرج تحت‏:‏ قل‏.‏

وعلى التفسير الأول فسرها الزمخشري، قال‏:‏ وقرئ‏:‏ إن يؤتى أحد على‏:‏ إن، النافية وهو متصل بكلام أهل الكتاب أي‏:‏ ولا تؤمنوا إلاَّ لمن تبع دينكم وقولوا ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم، أي‏:‏ ما يؤتون مثله فلا يحاجوكم‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ وقرأ الحسن‏:‏ ان يؤتى أحدٌ، بكسر التاء على اسناد الفعل إلى‏:‏ أحد، والمعنى أن إنعام الله لا يشبهه إنعام أحد من خلقه، وأظهر ما في هذه القراءة أن يكون خطاباً من محمد صلى الله عليه وسلم لأمته، والمفعول محذوف تقديره‏:‏ ان يؤتى أحد أحداً‏.‏ انتهى‏.‏ ولم يتعرّض ابن عطية للفظ‏:‏ ان، في هذه القراءة‏:‏ أهي بالكسر أم بالفتح‏.‏

وقال السجاوندي‏:‏ وقرأ الأعمش‏:‏ ان يؤتى، و‏:‏ الحسن‏:‏ ان يؤتى أحداً، جعلا‏:‏ ان، نافية، وإن لم تكن بعد إلاَّ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيما إن مكناكم فيه‏}‏ و‏:‏ أو، بمعنى‏:‏ إلاَّ إن، وهذا يحتمل قول الله عز وجل، ومع اعتراض‏:‏ قل، قول اليهود‏.‏ انتهى‏.‏

وفي معنى‏:‏ الهدى، هنا قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ ما أوتيه المؤمنون من التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ والثاني‏:‏ التوفيق والدلالة إلى الخير حتى يسلم، أو يثبت على الإسلام‏.‏

ويحتمل‏:‏ عند ربكم، وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن ذلك في الآخرة‏.‏ والثاني‏:‏ عند كتب ربكم الشاهدة عليكم ولكم، وأضاف ذلك إلى الرب تشريفاً، وكان المعنى‏:‏ أو يحاجوكم عند الحق، وعلى هذين المعنيين تدور تفاسير الآية، فيحمل كل منها على ما يناسب من هذين المعنيين‏.‏

‏{‏قل إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء‏}‏ هذا توكيد لمعنى ‏{‏قل إنّ الهدى هدى الله‏}‏ وفي ذلك تكذيب لليهود حيث قالو‏:‏ شريعة موسى مؤبدة ولن يؤتي الله أحداً مثل ما أوتي بنو إسرائيل من النبوّة، فالفضل هو بيد الله‏.‏

أي‏:‏ متصرّف فيه كالشيء في اليد، وهذه كناية عن قدرة التصرّف والتمكن فيها والباري تعالى منزه عن الجارحة‏.‏ ثم أخبر بأنه يعطيه من أراد، فاختصاصه بالفضل من شاء، إنما سببه الإرادة فقط، وفسر‏:‏ الفضل، هنا بالنبوّة أشرف أفراده‏.‏

‏{‏والله واسع عليم‏}‏ تقدّم تفسيره‏.‏

‏{‏يختص برحمته من يشاء‏}‏ قال الحسن، ومجاهد، والربيع‏:‏ يفرد بنبوّته من يشاء‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ بالإسلام والقرآن‏.‏ وقال ابن عباس، ومقاتل‏:‏ الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ كثرة الذكر لله تعالى‏.‏

‏{‏والله ذو الفضل العظيم‏}‏ تقدّم تفسير هذا وتفسير ما قبله في آخر آية‏:‏ ‏{‏ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب‏}‏ وتضمنت هذه الآيات من البديع‏:‏ التجنيس المماثل، والتكرار في‏:‏ آمنوا وآمنوا، وفي الهدى، هدى الله وفي‏:‏ يؤتى وأوتيتم، وفي‏:‏ ان افضل، وذو الفضل‏.‏ والتكرار أيضاً في‏:‏ اسم الله، في أربعة مواضع‏.‏ والطباق‏:‏ في آمنوا واكفروا، وفي وجه النهار وفي آخره، والإختصاص‏.‏ في‏:‏ وجه النهار، لأنه وقت اجتماعهم بالمؤمنين يراؤونهم، وآخره لأنه وقت خلوتهم بأمثالهم من الكفار، والحذف في مواضع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 79‏]‏

‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏76‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏77‏)‏ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏78‏)‏ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

الدينار‏:‏ معروف وهو أربعة وعشرون قيراطاً، والقيراط‏:‏ ثلاث حبات من وسط الشعير، فمجموعه‏:‏ اثنتان وسبعون حبة، وهو مجمع عليه‏.‏ وفاؤه بدل من نون، يدل على ذلك الجمع، قالوا‏:‏ دنانير، وأصله‏:‏ دنار، أبدل من أول المثلين، كما أبدلوا من النون في ثالث الأمثال ياءً في‏:‏ تظنيت‏.‏ أصله تظننت، لأنه من الظن، وهو بدل مسموع، والدينار‏:‏ لفظ أعجمي تصرّفت فيه العرب وألقته بمفردات كلامها‏.‏

دام‏:‏ ثبت، والمضارع‏:‏ يدوم، فوزنه، فعل نحو قال‏:‏ يقول، قال الفراء‏:‏ هذه لغة الحجاز وتميم، تقول‏:‏ دِمت، بكسر الدال‏.‏ قال‏:‏ ويجتمعون في المضارع، يقولون‏:‏ يدوم‏.‏ وقال أبو إسحاق يقول‏:‏ دمت تدام، مثل‏:‏ نمت تنام، وهي لغة، فعلى هذا يكون وزن دام، فعل بكسر العين، نحو‏:‏ خاف يخاف‏.‏ والتدويم الاستدارة حول الشيء‏.‏ ومنه قول ذي الرمة‏:‏

والشمس حيرى لها في الجوّ تدويم *** وقال علقمة في وصف خمر‏:‏

تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها *** ولا يخالطها في الرأس تدويم

والدوام‏:‏ الدوار، يأخذ في رأس الإنسان فيرى الأشياء تدور به‏.‏ وتدويم الطائر في السماء ثبوته إذا صف واستدار‏.‏ ومنه‏:‏ الماء الدائم، كأنه يستدير حول مركزه‏.‏

لوى الحبل والتوى‏:‏ فتله ثم استعمل في الإراغة في الحجج والخصومات، ومنه‏:‏ ليان الغريم‏:‏ وهو دفعه ومطله، ومنه‏:‏ خصم ألوى‏:‏ شديد الخصومة، شبهت المعاني بالإجرام‏.‏

اللسان‏:‏ الجارحة المعروفة‏.‏ قال أبو عمرو‏:‏ اللسان يذكر ويؤنث، فمن ذكر جمعه ألسنة ومن أنث أمعه ألسنا‏.‏ وقال الفراء‏:‏ اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلاَّ مذكراً‏.‏ انتهى‏.‏ ويعبر باللسان عن الكلام، وهو أيضاً يذكر ويؤنث إذا أريد به ذلك‏.‏

الرباني‏:‏ منسوب إلى الرب، وزيدت الألف والنون مبالغة‏.‏ كما قالوا‏:‏ لحياني، وشعراني، ورقباني‏.‏ فلا يفردون هذه الزيادة عن ياء النسبة‏.‏ وقال قوم‏:‏ هو منسوب إلى ربان، وهو معلم الناس وسائسهم، والألف والنون فيه كهي في‏:‏ غضبان وعطشان، ثم نسب إليه فقالوا‏:‏ رباني، فعلى هذا يكون من النسب في الوصف، كما قالوا‏:‏ أحمري في أحمر، و‏:‏ دواري في دّوار، وكلا القولين شاذ لا يقاس عليه‏.‏

درس الكتاب يدرسه‏:‏ أدمن قراءته وتكريره، ودرس المنزل‏:‏ عفا، وطلل دارس‏:‏ عافٍ‏.‏

‏{‏ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده اليك ومنهم من إن تامنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً‏}‏ الجمهور على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى أخبر الله تعالى بذم الخونة منهم، فظاهره أن في اليهود والنصارى من يؤتمن فيفي ومن يؤتمن فيخون‏.‏ وقيل‏:‏ أهل الكتاب عنى به أهل القرآن، قاله ابن جريج‏.‏ وهذا ضعيف جداً لما يأتي بعده من قولهم‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل‏}‏ وقيل‏:‏ المراد بأهل الكتاب‏:‏ اليهود، لأن هذا القول ‏{‏ليس علينا في الأميين سبيل‏}‏ لم يقله ولا يعتقده إلاَّ اليهود‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏من إن تأمنه بقنطار‏}‏ هم النصارى لغلبة الأمانة عليهم‏.‏ و‏:‏ ‏{‏من إن تأمنه بدينار‏}‏ هم اليهدو لغلبة الخيانة عليهم‏.‏ وعين منهم كعب بن الأشرف وأصحابه‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏من إن تأمنه بقنطار‏}‏ هم من أسلم من أهل الكتاب‏.‏ و‏:‏ ‏{‏من إن تأمنه بدينار‏}‏ من لم يسلم منهم‏.‏

وروي أنه بايع بعض العرب بعض اليهود وأودعوهم فخانوا من أسلم، وقالوا‏:‏ قد خرجتم عن دينكم الذي عليه بايعناكم، وفي كتابنا‏:‏ لا حرمة لأموالكم، فكذبهم الله تعالى‏.‏ قيل‏:‏ وهذا سبب نزول هذه الآية‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ ‏{‏من إن تأمنه بقنطار يؤده‏}‏ هو عبد الله بن سلام، استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية ذهباً، فأدّاه إليه‏.‏ و‏:‏ ‏{‏من إن تأمنه بدينار‏}‏ فنحاص بن عازوراء، استودعه رجل من قريش ديناراً فجحده وخانه‏.‏ انتهى‏.‏ ولا ينحصر الشرط في ذينك المعينين، بل كل منهما فرد ممن يندرج تحت‏:‏ من‏.‏ ألا ترى كيف جمع في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم قالوا ليس علينا‏}‏ قالوا والمخاطب بقوله‏:‏ تأمنه، هو النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف، ويحتمل أن يكون السامع من أهل الإسلام، وبيّنه قولهم‏:‏ ‏{‏ليس علينا في الأمّيين سبيل‏}‏ فجمع الأمّيين وهم اتباع النبي الأمي‏.‏

وقرأ أبي بن كعب‏:‏ تئمنه، في الحرفين، و‏:‏ تئمنا، في يوسف‏.‏ وقرأ ابن مسعود، والأشهب العقيلي، وابن وثاب‏:‏ تيمنه، بتاء مكسورة وياء ساكنة بعدها، قال الداني‏:‏ وهي لغة تميم‏.‏ وأما إبدال الهمزة ياء في‏:‏ تئمنه، فلكسرة ما قبلها كما أبدلوا في بئر‏.‏

وقد ذكرنا الكلام على حروف المضارعة من‏:‏ فعل، ومن‏:‏ ما أوله همزة وصل عند الكلام على قوله ‏{‏نستعين‏}‏ فأغنى عن إعادته‏.‏

وقال‏:‏ ابن عطية، حين ذكر قراءة أبي‏:‏ وما أراها إلاَّ لغة‏:‏ قرشية، وهي كسر نون الجماعة‏:‏ كنستعين، وألف المتكلم، كقول ابن عمر‏:‏ لا إخاله، وتاء الخاطب كهذه الآية، ولا يكسرون الياء في الغائب، وبها قرأ أبي في‏:‏ تئمنه‏.‏ انتهى‏.‏ ولم يبين ما يكسر فيه حروف المضارعة بقانون كلي، وما ظنه من أنها لغة قرشية ليس كما ظنّ‏.‏ وقد بينا ذلك في ‏{‏نستعين‏}‏ وتقدّم تفسير‏:‏ القنطار، في قوله‏:‏ ‏{‏والقناطير المقنطرة‏}‏

وقرأ الجمهور‏:‏ يؤده، بكسر الهاء ووصلها بياء‏.‏ وقرأ قالون باختلاس الحركة، وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر، وحمزة، والأعمش بالسكون‏.‏ قال أبو إسحاق‏:‏ وهذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بيِّن، لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم، وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تسكن في الوصل‏.‏ وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة، فغلط عليه كما غلط عليه في‏:‏ بارئكم، وقد حكى عنه سيبويه، وهو ضابط لمثل هذا، أنه كان يكسر كسراً خفيفاً‏.‏ انتهى كلام ابن إسحاق‏.‏ وما ذهب إليه أبو إسحاق من أن الإسكان غلط ليس بشيء، إذ هي قراءة في السبعة، وهي متواترة، وكفى أنها منقولة من إمام البصريين أبي عمرو بن العلاء‏.‏

فإنه عربي صريح، وسامع لغة، وإمام في النحو، ولم يكن ليذهب عنه جواز مثل هذا‏.‏

وقد أجاز ذلك الفراء وهو إمام في النحو واللغة‏.‏ وحكى ذلك لغة لبعض العرب تجزم في الوصل والقطع‏.‏

وقد روى الكسائي أن لغة عقيل وكلاب‏:‏ أنهم يختلسون الحركة في هذه الهاء إذا كانت بعد متحرك، وأنهم يسكنون أيضاً‏.‏ قال الكسائي‏:‏ سمعت أعراب عقيل وكلاب يقولون‏:‏ ‏{‏لربه لكنود‏}‏ بالجزم، و‏:‏ لربه لكنود، بغير تمام وله مال وغير عقيل وكلاب لا يوجد في كلامهم اختلاس ولا سكون في‏:‏ له وشبهه إلاَّ في ضرورة نحو قوله‏.‏

له زجل كأنه صوت حاد *** وقال‏:‏

إلا لأن عيونه سيل واديها *** ونص بعض أصحابنا على أن حركة هذه الهاء بعد الفعل الذاهب منه حرف لوقف أو جزم يجوز فيها الإشباع، ويجوز الاختلاس، ويجوز السكون‏.‏ وأبو إسحاق الزجاج، يقال عنه‏:‏ إنه لم يكن إماماً في اللغة، ولذلك أنكر على ثعلب في كتابه‏:‏ ‏(‏الفصيح‏)‏ مواضع زعم أن العرب لا تقولها، وردّ الناس على أبي إسحاق في إنكاره، ونقلوها من لغة العرب‏.‏ وممن ردّ عليه‏:‏ أبو منصور الجواليقي، وكان ثعلب إماماً في اللغة وإماماً في النحو على مذهب الكوفيين، ونقلوا أيضاً قراءتين‏:‏ إحداهما ضم الهاء ووصلها بواو، وهي قراءة الزهري، والأخرى‏:‏ ضمها دون وصل، وبها قرأ سلام‏.‏

والباء في‏:‏ بقنطار، وفي‏:‏ بدينار قيل‏:‏ للإلصاق‏.‏ وقيل‏:‏ بمعنى على، إذا الأصل أن تتعدى بعلى، كما قال مالك‏:‏ ‏{‏لا تأمنا على يوسف‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏هل آمنكم عليه إلاَّ كما أمنتكم على أخيه‏}‏ وقيل‏:‏ بمعنى في أي‏:‏ في حفظ قنطار، وفي حفظ دينار‏.‏ والذي يظهر أن القنطار والدينار مثالان للكثير والقليل، فيدخل أكثر من القنطار وأقل‏.‏ وفي الدينار أقل منه‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يريد طبقه يعني في الدينار لا يجوز إلاَّ في دينار فما زاد، ولم يعن بذكر الخائنين في‏:‏ أقل، إذ هم طغام حثالة‏.‏ انتهى‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏إلاَّ ما دمت عليه قائماً‏}‏ قال قتادة، ومجاهد، والزجاج، والفراء، وابن قتيبة‏:‏ متقاضياً بأنواع التقاضي من‏:‏ الخفر، والمرافعة إلى الحكام، فليس المراد هيئة القيام، إنما هو من قيام المرء على أشغاله‏:‏ أي اجتهاده فيها‏.‏

وقال السدي وغيره‏:‏ قائماً على رأسه وهي الهيئة المعروفة وذلك نهاية الخفر، لأن معنى ذلك الخفر، لأن معنى ذلك أنه في صدد شغل آخر يريد أن يستقبله‏.‏ وذهب إلى هذا التأويل جماعة من الفقهاء، وانتزعوا من الآية جواز السجن، لأن الذي يقوم عليه غريمه هو يمنعه من تصرفاته في غير القضاء، ولا فرق بين المنع من التصرفات وبين السجن‏.‏ وقيل‏:‏ قائماً بوجهك فيها بك ويستحي منك‏.‏ وقيل‏:‏ معنى‏:‏ دمت عليه قائماً، أي‏:‏ مستعلياً، فإن استلان جانبك لم يؤدّ إليك أمانتك‏.‏

وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، ويحيى بن وثاب، والأعمش، وابن أبي ليلى، والفياض بن غزوان، وطلحة، وغيرهم‏:‏ دمت بكسر الدال، وتقدم أنها لغة تميم وتقدم الخلاف في مضارعه‏.‏

و‏:‏ ما، في‏:‏ ما دمت، مصدرية ظرفية‏.‏ و‏:‏ دمت، ناقصة فخبرها‏:‏ قائماً، وأجاز أبو البقاء أن تكون‏:‏ ما، مصدرية فقط لا ظرفية، فتتقدر بمصدر، وذلك المصدر ينتصب على الحال، فيكون ذلك استثناءً من الأحوال لا من الأزمان‏.‏ قال‏:‏ والتقدير‏:‏ إلاَّ في حال ملازمتك له‏.‏ فعلى هذا يكون‏:‏ قائماً، منصوباً على الحال، لا خبراً لدام، لأن شرط نقص‏:‏ دام، أن يكون صلة لما المصدرية الظرفية‏.‏

‏{‏ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الامّيين سبيل‏}‏ روي أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال‏.‏ العرب لكونهم أهل أوثان، فلما جاء الإسلام، وأسلم من أسلم من العرب، بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد، فنزلت الآية مانعة من ذلك‏.‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كل شيء من أمر الجاهلية فهو تحت قدمي، إلاَّ الأمانة فإنها مؤادّة إلى البر والفاجر» والإشارة بذلك إلى ترك الأداء الذي دل عليه لا يؤدّه، أي‏:‏ كونهم لا يؤدّون الأمانة كان بسبب قولهم‏.‏

والضمير في‏:‏ بأنهم، قيل‏:‏ عائد على اليهود وقيل‏:‏ عائد على لفيف بني إسرائيل‏.‏ والأظهر أنه عائد على‏:‏ من، في قوله‏:‏ ‏{‏من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك‏}‏ وجمع حملاً على المعنى، أي‏:‏ ترك الأداء في الدِّينار فما دونه وفما فوقه كائن بسبب قول المانع للأداء الخائن‏:‏ ‏{‏ليس علينا في الأمّيين‏}‏ وهم الذين ليسوا من أهل الكتاب، وهم العرب‏.‏ وتقدّم كونهم سموا أمّيين في سورة البقرة‏.‏

والسبيل، قيل‏:‏ العتاب والذم وقيل‏:‏ الحجة على، نحو قول حميد بن ثور‏:‏

وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة *** من السرح موجود عليّ طريق

وقوله‏:‏ فأولئك ما عليهم من سبيل من هذا المعنى، وهو كثير في القرآن وكلام العرب وقيل‏:‏ السبيل هنا الفعل المؤدّي إلى الإثم‏.‏ والمعنى‏:‏ ليس عليهم طريق فيما يستحلون من أموال المؤمنين الأمّيين‏.‏

قال‏:‏ وسبب استباحتهم لأموال الأمّيين أنهم عندهم مشركون، وهم بعد إسلامهم باقون على ما كانوا عليه، وذلك لتكذيب اليهود للقرآن وللنبي صلى الله عليه وسلم وقيل‏:‏ لأنهم انتقض العهد الذي كان بينهم بسبب إسلامهم، فصاروا كالمحاربين، فاستحلوا أموالهم وقيل‏:‏ لأن ذلك مباح في كتابهم أخذ مال من خالفهم‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ قالت اليهود‏:‏ الأموال كلها كانت لنا، فما في أيدي العرب منها فهو لنا، وأنهم ظلمونا وغصبونا، فلا سبيل علينا في أخذ أموالنا منهم وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق الهمداني، عن صعصعة، أن رجلاً قال لابن عباس‏:‏ أنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمّة‏:‏ الشاة والدجاجة، ويقولون‏:‏ ليس علينا بذلك بأس، فقال له‏:‏ هذا كما قال أهل الكتاب‏:‏ ‏{‏ليس علينا في الأمّيين سبيل‏}‏ أنهم إذا أدّوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلاَّ عن طيب أنفسهم‏.‏

وذكر هذا الأثر الزمخشري، وابن عطية، وفيه بعد ذكر الشاة أو الدجاجة، قال‏:‏ فيقولون ماذا قال‏؟‏ يقول‏:‏ ليس علينا في ذلك بأس‏.‏

‏{‏ويقولون على الله الكذب‏}‏ أي القول الكذب يفترونه على الله بادعائهم أن ذلك في كتابهم‏.‏ قال السدّي، وابن جريج، وغيرهما‏:‏ ادعت طائفة من أهل الكتاب أن في التوراة إحلالاً لهم أموال الأمّيين كذباً منها وهي عالمة بكذبها، فيكون الكذب المقول هنا هو هذا الكذب المخصوص في هذا الفصل‏.‏ والظاهر أنه أعم من هذا، فيندرج هذا فيه، أي‏:‏ هم يكذبون على الله في غير ما شيء وهم علماء بموضع الصدق‏.‏

وجوّزوا أن يكون‏:‏ علينا، خبر‏:‏ ليس، وأن يكون الخبر‏:‏ في الأمّيين، وذهب قوم إلى عمل‏:‏ ليس، في الجار، فيجوز على هذا أن يتعلق بها‏.‏

قيل‏:‏ ويجوز أن يرتفع‏:‏ سبيل، بعلينا، وفي‏:‏ ليس، ضمير الأمر، ويتعلق‏:‏ على الله، بيقولون بمعنى‏:‏ يفترون‏.‏

قيل‏:‏ ويجوز أن يكون حالاً من الكذب مقدماً عليه ولا يتعلق بالكذب‏.‏

قيل‏:‏ لأن الصلة لا تتقدّم على الموصول‏.‏

‏{‏وهم يعلمون‏}‏ جملة حالية تنعى عليهم قبيح ما يرتكبون من الكذب، أي‏:‏ إن العلم بالشيء يبعد ويقبح أن يكذب فيه، فكذبهم ليس عن غفلة ولا جهل، إنما هو عن علم‏.‏

‏{‏بلى‏}‏ جواب لقولهم‏:‏ ‏{‏ليس علينا في الأمّيين سبيل‏}‏ وهذا مناقض لدعواهم، والمعنى‏:‏ بلى عليهم في الأمّيين سبيل، وقد تقدّم القول في‏:‏ بلى، في قوله ‏{‏بلى من كسب سيئة‏}‏ فأغنى عن إعادته هنا‏.‏

‏{‏من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين‏}‏ أخبر تعالى بأن من أوفى بالعهد واتقى الله في نقضه فهو محبوب عند الله وقال ابن عباس‏:‏ اتقى هنا معناه اتقى الشرك، وهذه الجملة مقررة للجملة المحذوفة بعد بلى، و‏:‏ من، يحتمل أن تكون موصولة، والأظهر أنها شرطية، و‏:‏ أوفى، لغة الحجاز‏.‏ و‏:‏ وفى، خفيفة لغة نجد و‏:‏ وفى، مشدّدة لغة أيضاً‏.‏ وتقدّم ذكر هذه اللغات‏.‏

والظاهر في‏:‏ بعهده، أن الضمير عائد على‏:‏ من وقيل‏:‏ يعود على الله تعالى، ويدخل في الوفاء بالعهد، العهد الأعظم من ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء أضيف العهد إلى‏:‏ من، أو‏:‏ إلى الله، والشرائط للجملة الخبرية أو الجزائية بمن هو العموم الذي في المتقين، أو ما قبله، فرد من أفراده، ويحتمل أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة المعنى عليه، التقدير‏:‏ يحبه الله، ثم قال ‏{‏فإن الله يحب المتقين‏}‏ وأتى بلفظ‏:‏ المتقين، عاماً تشريفاً للتقوى دحضاً عليها‏.‏

‏{‏إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً‏}‏ نزلت في أحبار اليهود‏:‏ أبي رافع، وكنانة بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، قاله عكرمة‏.‏

أو‏:‏ فيمن حرّف نعته صلى الله عليه وسلم من اليهود، قاله الحسن‏.‏ أو‏:‏ في خصومة الأشعث بن قيس مع يهودي، أو مع بعض قرابته‏.‏ أو‏:‏ في رجل حلف على سلعة مساءً لأعطي بها أول النهار كذا، يميناً كاذبة، قاله مجاهد، والشعبي‏.‏

والإضافة في ‏{‏بعهد الله‏}‏ إما للفاعل وإما للمفعول، أي‏:‏ بعهد الله إياه من الإيمان بالرسول الذي بعث مصدّقاً لما معهم، وبأيمانهم التي حلفوها لنؤمنن به ولننصرنه، أو بعهد الله‏.‏ والاشتراء هنا مجاز، والثمن القليل‏:‏ متاع الدنيا من الرشى والتراؤس ونحو ذلك، والظاهر أنها في أهل الكتاب لما احتف بها من الآيات التي قبلها والآيات التي بعدها‏.‏

‏{‏أولئك لا خلاق لهم في الآخرة‏}‏ أي‏:‏ لا نصيب لهم في الآخرة، اعتاضوا بالقليل الفاني عن النعيم الباقي، ونعني‏:‏ لا نصيب له من الخير، نفي نصيب الخير عنه‏.‏

‏{‏ولا يكلمهم الله‏}‏ قال الطبري‏:‏ أي بما يسرهم وقال غيره‏:‏ لا يكلمهم جملة وإنما تحاسبهم الملائكة، قاله الزّجاج‏.‏ وقال قوم‏:‏ هو عبارة عن الغضب، أي‏:‏ لا يحفل بهم، ولا يرضى عنهم، وقاله ابن بحر‏.‏ وقد تقدّم في البقرة شرح‏:‏ ‏{‏ولا يكلمهم الله‏}‏

‏{‏ولا ينظر إليهم يوم القيامة‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ ولا ينظر إليهم مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم، تقول‏:‏ فلان لا ينظر إلى فلان، يريد نفي اعتداده به، واحسانه إليه‏.‏

فإن قلت أي فرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر وفيمن لا يجوز عليه‏.‏

قلت أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية، لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان، وإن لم يكن ثَمّ نظر، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرداً لمعنى الإحسان مجازاً عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر‏.‏ انتهى كلامه‏.‏ وقال غيره‏:‏ ولا ينظر أي‏:‏ لا يرحم قال‏:‏

فقلت انظري يا أحسن الناس كلهم *** لذي غلة صديان قد شفه الوجدُ

‏{‏ولا يزكيهم‏}‏ ولا يثني عليهم أو لا ينمي أعمالهم، فهي تنمية لهم، أو لا يطهرهم من الذنوب‏.‏ أقوال ثلاثة، وتقدّم شرحه في البقرة‏.‏

‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏ تقدّم شرحه أيضاً‏.‏

‏{‏وإن منهم لفريقاً‏}‏ أي‏:‏ من اليهود، قاله الحسن‏:‏ أو‏:‏ من أهل الكتابين، قاله ابن عباس‏.‏ وعن ابن عباس أيضاً‏:‏ هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيّروا التوراة‏.‏ وكتبوا كتاباً بدلوا فيه صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم‏.‏

‏{‏يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب‏}‏ أي‏:‏ يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف، قاله الزمخشري وقال ابن عطية‏:‏ يحرفون ويتحيلون لتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها، ومثال ذلك قولهم‏:‏ راعنا، وأسمع غير مسمع، ونحو ذلك وليس التبديل المحض‏.‏

انتهى‏.‏

والذي يظهر أن الليّ وقع بالكتاب أي‏:‏ بألفاظه لا بمعانيه وحدها كما يزعم بعض الناس، بل التحريف والتبديل وقع في الألفاظ، والمعاني تبع للألفاظ، ومن طالع التوراة علم يقيناً أن التبديل في الألفاظ والمعاني، لأنها تضمنت أشياء يجزم العاقل أنها ليست من عند الله، ولا أن ذلك يقع في كتاب إلهي من كثرة التناقض في الاخبار والأعداد ونسبة أشياء إلى الله تعالى من الأكل والمصارعة وغير ذلك، ونسبة أشياء إلى الأنبياء من الكذب والسكر من الخمر والزنا ببناتهم‏.‏ وغير ذلك من القبائح التي ينزه العاقل نفسه عن أن يتصف بشيء منها، فضلاً عن منصب النبوة‏.‏

وقد صنف الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن خطاب الباجي، رحمه الله تعالى، كتاباً في ‏(‏السؤالات على ألفاظ التوراة ومعانيه‏)‏ ومن طالع ذلك الكتاب رأى فيه عجائب وغرائب، وجزم بالتبديل لألفاظ التوراة ومعانيها، هذا مع خلوها من ذكر‏:‏ الآخرة، والبعث، والحشر، والنشر، والعذاب والنعيم الأخرويين، والتبشير برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأين هذا من قوله تعالى ‏{‏الذين يتبعون الرسول النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم‏}‏ وقوله تعالى وقد ذكر رسوله وصحابته‏.‏ ‏{‏ذلك مثلهم في التوراة‏}‏

وقد نص تعالى في القرآن على ما يقتضي إخفاءهم لكثير من التوراة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً‏}‏ وقال تعالى ‏{‏يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب‏}‏ فدلت هاتان الآيتان على أن الذي أخفوه من الكتاب كثير، ودل بمفهوم الصفة أن الذي أبدوه من الكتاب قليل‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ يلوون، مضارع‏:‏ لوى وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، وشيبة بن نصاح، وأبو حاتم عن نافع‏:‏ يلوون بالتشديد، مضارع‏:‏ لوّى، مشدّداً‏.‏ ونسبها الزمخشري لأهل المدينة، والتضعيف للمبالغة والتكثير في الفعل لا للتعدية وقرأ حميد‏:‏ يلون، بضم اللام، ونسبها الزمخشري إلى أنها رواية عن مجاهد، وابن كثير، ووجهت على أن الأصل‏:‏ يلوون، ثم أبدلت الواو همزة، ثم نقلت حركتها إلى الساكن قبلها، وحذفت هي‏.‏

والكتاب‏:‏ هنا التوراة، والمخاطب في‏:‏ لتحسبوه، المسلمون وقرئ‏:‏ ليحسبوه، بالياء وهو يعود على الذين يلوون ألسنتهم لهم، أي‏:‏ ليحسبه المسلمون، والضمير المفعول في‏:‏ ليحسبوه، عائد على ما دل عليه ما قبله من المحرف، أي ليحسبوا المحرف من الكتاب‏.‏

ويحتمل أن يكون قوله‏:‏ بالكتاب، على حذف مضاف أي‏:‏ يلوون ألسنتهم بشبه الكتاب، فيعود الضمير على ذلك المضاف المحذوف، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو كظلمات في بحر لجّي يغشاه‏}‏ أي‏:‏ أو كذي ظلمات، فأعاد المفعول في‏:‏ يغشاه، على‏:‏ ذي، المحذوف‏.‏

‏{‏وما هو من الكتاب‏}‏ أي‏:‏ وما المحرف والمبدل الذي لووه بألسنتهم من التوراة، فلا تظنوا ذلك أنه من التوراة‏.‏

‏{‏ويقولون هو من عند الله‏}‏ تأكيد لما قصدوه من حسبان المسلمين أنه من الكتاب، وافتراء عظيم على الله، إذ لم يكتفوا بهذا الفعل القبيح من التبديل والتحريف حتى عضدوا ذلك بالقول ليطابق الفعل القول، ودل ذلك على أنهم لا يعرضون، ولا يودّون في ذلك، بل يصرحون بأنه في التوراة هكذا، وقد أنزله الله على موسى كذلك، وذلك لفرط جرأتهم على الله ويأسهم من الآخرة‏.‏

‏{‏وما هو من عند الله‏}‏ رد عليهم في إخبارهم بالكذب، وهذا تأكيد لقوله ‏{‏وما هو من الكتاب‏}‏ نفى أولاً أخص، إذ التعليل كان لأخص، ونفي هنا أعم، لأن الدعوى منهم كانت الأعم، لأن كونه من عند الله أعم من أن يكون في التوراة أو غيرها‏.‏

قال أبو بكر الرازي‏:‏ هذه الآية فيها دلالة على أن المعاصي ليست من عند الله ولا من فعله، لأنها لو كانت من فعله كانت من عنده‏.‏ وقد نفى الله تعالى نفياً عامّاً لكون المعاصي من عنده‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا مذهب المعتزلة، وكان الرازي يجنح إلى مذهبهم‏.‏

وقال ابن عطية ‏{‏وما هو من عند الله‏}‏ نفي أن يكون منزلاً كما ادّعوا، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد، ومنهم بالتكسب‏.‏ ولم تعن الآية إلاَّ معنى التنزيل، فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله‏:‏ ‏{‏وما هو من عند الله‏}‏‏.‏

‏{‏ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏}‏ تقدّم تفسير مثل هذا آنفاً‏.‏

‏{‏ما كان لبشر أن يأتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله‏}‏ «روي أن أبا رافع القرظي قال للنبي صلى الله عليه وسلم، حين اجتمت الأحبار من يهود، والوفد من نصارى نجران‏:‏ يا محمد‏!‏ إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلهاً كما عبدت النصارى عيسى‏؟‏ فقال الرئيس من نصارى نجران‏:‏ أَوَ ذاك تريد يا محمد واليه تدعونا‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏» معاذ الله ما بذلك أمرت ولا إليه دعوت «، فنزلت‏.‏

وقيل‏:‏» قال رجل‏:‏ يا رسول الله‏!‏ نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك‏؟‏ قال‏:‏ «لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله» واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ما كان لبشر‏}‏ فقال ابن عباس، والربيع، وابن جريج، وجماعة‏:‏ الإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وذكروا سبب النزول المذكور‏.‏

وقال النقاش، وغيره‏:‏ الإشارة إلى عيسى، والآية رادّة على النصارى الذين قالوا‏:‏ عيسى إله، وادعوا أن عبادته هي شرعة مستندة إلى أوامره، ومعنى ‏{‏ما كان لبشر أن يؤتيه الله‏}‏ وما جاء نحوه أنه ينفي عنه الكون، والمراد نفي الخبر، وذلك على قسمين‏.‏

أحدهما‏:‏ أن يكون الانتفاء من حيث العقل، ويعبر عنه بالنفي التام، ومثاله قوله‏:‏

‏{‏ما كان لكم أن تنبتوا شجرها‏}‏ ‏{‏وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله‏}‏

والثاني‏:‏ أن يكون الانتفاء فيه على سبيل الانتفاء، ويعبر عنه بالنفي غير التام، ومثاله قول أبي بكر الصديق، رضي الله عنه‏:‏ ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدّم أن يصلى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومدرك القسمين إنما يعرف بسياق الكلام الذي النفي فيه، وهذه الآية من القسم الأول، لأنا نعلم أن الله لا يعطي الكَذَبة والمدَّعين النبوّة، وفي هذه الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم السلام‏.‏

والكتاب‏:‏ هنا اسم جنس، والحكم‏:‏ قيل بمعنى الحكمة، ومنه‏:‏ «إن من الشعر لحكماً»‏.‏ وقيل‏:‏ الحكم هنا السنة، يعنون لمقابلته الكتاب، والظاهر أن الحكم هنا القضاء والفصل بين الناس، وهذا من باب الترقي، بدأ أولاً بالكتاب وهو العلم، ثم ترقى إلى التمكين وهو الفصل بين الناس ثم ترقى إلى الرتبة العليا وهي النبوّة وهي مجمع الخير، ثم يقول للناس‏.‏

أتى بلفظ‏:‏ ثم، التي هي للمهلة تعظيماً لهذا القول، وإذا انتفى هذا القول بعد المهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى، أي‏:‏ إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول، وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام العظيم‏.‏

‏{‏كونوا عباداً لي من دون الله‏}‏ عباداً جمع عبد‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ومن جموعه‏:‏ عبيد وعبدّي‏.‏ قال بعض اللغويين‏:‏ هذه الجموع كلها بمعنى‏.‏ وقال قوم‏:‏ العباد لله والعبيد للبشر‏.‏ وقال قوم‏:‏ العبدي إنما يقال في العبيد بني العبيد، كأنه مبالغة تقتضي الاستغراق في العبودية‏.‏

والذي استقرئت في لفظة‏:‏ العباد، أنه جمع عبد، متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن فانظر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله رؤوف بالعباد‏}‏ ‏{‏وعباد مكرمون‏}‏ ‏{‏يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم‏}‏ وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض ‏{‏إن تعذبهم فانهم عبادك‏}‏

وأما‏:‏ العبيد، فيستعمل في التحقير، ومنه قول امرئ القيس‏:‏

قولاً لدودان عبيد العصا *** ما غركم بالأسد الباسل

ومنه قول حمزة بن عبد المطلب‏:‏ وهل أنتم إلاَّ عبيد لأبي، ومنه ‏{‏وما ربك بظلام للعبيد‏}‏ لأنه مكان تشقيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم، وأنه تعالى ليس بظلام لهم مع ذلك، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة، لم يقع هنا، ولذلك أنس بها في قوله‏:‏ ‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم‏}‏ فهذا النوع من النظر يسلك بك سبيل العجائب في حيز فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة، ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏كونوا عباداً لي من دون الله‏}‏ اعبدوني واجعلوني إلهاً‏.‏ انتهى كلام ابن عطية‏.‏ وفيه بعض مناقشة‏.‏

أما قوله‏:‏ ومن جموعه‏:‏ عبيد وعبدى، أما عبيد فالأصح أنه جمع‏.‏ وقيل‏:‏ اسم جمع، و‏:‏ أما عبدى فاسم جمع، وألفه للتأنيث‏.‏ وأما ما استقرأه أن عباداً يساق في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير، وإيراده ألفاظاً في القرآن بلفظ العباد، وقوله‏:‏ وأما العبيد فيستعمل في تحقير، وأنشد بيت أمرئ القيس، وقول حمزة وقوله تعالى

‏{‏بظلام للعبيد‏}‏ فليس باستقراء صحيح، وإنما كثر استعمال‏:‏ عباد، دون‏:‏ عبيد، لأن فعالاً في جمع فعل غير اليائي العين قياس مطرد، وجمع فعل على فعيل لا يطرد‏.‏

قال سيبويه‏:‏ وربما جاء فعيلاً وهو قليل، نحو‏:‏ الكليب والعبيد‏.‏ انتهى‏.‏

فلما كان فعال هو المقيس في جمع‏:‏ عبد، جاء‏:‏ عباد، كثيراً‏.‏ وأما ‏{‏وما ربك بظلام للعبيد‏}‏ فحسن مجيئه هنا وإن لم يكن مقيساً أنه جاء لتواخي الفواصل، ألا ترى أن قبله ‏{‏أولئك ينادون من مكان بعيد‏}‏ وبعده ‏{‏قالوا آذناك ما منا من شهيد‏}‏ فحسن مجيئه بلفظ العبيد مواخاة هاتين الفاصلتين، ونظير هذا قوله في سورة ق‏:‏ ‏{‏وما أنا بظلام للعبيد‏}‏ لأن قبله ‏{‏قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد‏}‏ وبعده ‏{‏يوم نقول لجهنم هل امتلات وتقول هل من مزيد‏}‏ وأما مدلوله فمدلول‏:‏ عباد، سواء‏.‏

وأما بيت امرئ القيس فلم يفهم التحقير من لفظ‏:‏ عبيد، إنما فهم من إضافتهم إلى العصا، ومن مجموع البيت‏.‏ وكذلك قول حمزة إنما فهم منه معنى التحقير من قرينة الحال التي كان عليها، وأتى في البيت، وفي وقل حمزة على أحد الجائزين‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ثم يقول، بالنصب عطفاً على‏:‏ أن يؤتيه، وقرأ شبل عن ابن كثير، ومحبوب عن أبي عمرو‏:‏ بالرفع على القطع أي‏:‏ ثم هو يقول‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ عباداً لي، بتسكين ياء الإضافة‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر‏:‏ بفتحها‏.‏

‏{‏ولكن كونوا ربانيين‏}‏ هذا على إضمار القول تقديره‏:‏ ولكن يقول كونوا ربانيين، والرباني الحكيم العالم، قاله قتادة، وأبو رزين‏.‏ أو‏:‏ الفقيه، قاله علي، وابن عباس، والحسن، ومجاهد‏.‏ أو‏:‏ العالم الحليم، قاله قتادة وغيره‏.‏ أو‏:‏ الحكيم الفقيه، قاله ابن عباس‏.‏ أو‏:‏ الفقيه العلم، قاله الحسن، والضحاك‏.‏ أو‏:‏ والي الأمر يربيهم ويصلحهم، قاله ابن زيد‏.‏ أو‏:‏ الحكيم التقي، قاله ابن جبير‏.‏ أو‏:‏ المعلم، قاله الزجاج‏.‏ أو‏:‏ العالم، قاله المبرد‏.‏ أو‏:‏ التائب لربه، قاله المؤرج‏.‏ أو‏:‏ الشديد التمسك بدين الله وطاعته، قاله الزمخشري‏.‏ أو‏:‏ العالم الحكيم الناصح لله في خلقه، قاله عطاء‏.‏ أو‏:‏ العالم العامل بعلمه، قاله ابن جبير‏.‏ أو‏:‏ العالم المعلم، قاله بعضهم‏.‏ وهذه أقوال متقاربة‏.‏

وللصوفية في تفسيره أقوال كثيرة غير هذه، وقال مجاهد‏:‏ الرباني فوق الحبر، لأن الحبر هو العالم، والرباني الذي جمع إلى العلم والفقه النظر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دينهم ودنياهم‏.‏ وفي البخاري‏:‏ الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ فجملة ما يقال في الرباني‏:‏ إنه العالم المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس انتهى‏.‏ ولما مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية‏:‏ اليوم مات رباني هذه الآمة‏.‏

‏{‏بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون‏}‏ الباء للسبب، و‏:‏ ما، الظاهر أنها مصدرية، و‏:‏ تعلمون، متعدٍ لواحد على قراءة الحرميين وأبي عمرو إذ قرأوا بالتخفيف مضارع علم، فأما قراءة باقي السبعة بضم التاء وفتح العين وتشديد اللام المكسورة، فيتعدّى إلى اثنين، إذ هي منقولة بالتضعيف من المتعدية إلى واحد، وأول المفعولين محذوف تقديره‏:‏ تعلمون الناس الكتاب‏.‏ وتكلموا في ترجيح أحد القراءتين على الأخرى، وقد تقدّم أني لا أرى شيئاً من هذه التراجيح، لأنها كلها منقولة متواترة قرآناً، فلا ترجيح في إحدى القراءتين على الأخرى‏.‏

وقرأ مجاهد، والحسن‏:‏ تعلمون، بفتح التاء والعين واللام المشددة، وهو مضارع حذفت منه التاء، التقدير‏:‏ تتعلمون، وقد تقدم الخلاف في المحذوف منهما‏.‏

وقرأ أبو حيوة‏:‏ تدرسون بكسر الراء‏.‏ وروي عنه‏:‏ تدرّسون، بضم التاء وفتح الدال وكسر الراء المشددة أي‏:‏ تدرسون غيركم العلم، ويحتمل أن يكون التضعيف للتكثير لا للتعدية‏.‏ وقرئ‏:‏ تدرسون، منن أدرس بمعنى درّس نحو‏:‏ أكرم وكرّم، و‏:‏ أنزل نزّل، وقال الزمخشري‏:‏ أوجب أن تكون الرئاسة التي هي قوّة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم والدراسة، وكفى به دليلا على خيبة سعي من جهد نفسه وكدر وجه في جمع العلم، ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل، فكان مثل من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها، ثم قال أيضاً، بعد أسطر‏:‏ وفيه أن من علم ودرس العلم ولم يعمل به فليس من الله في شيء، وأن السبب بينه وبين ربه منقطع حيث لم تثبت النسبة إليه إلاَّ للمتمسكين بطاعته‏.‏ انتهى كلامه‏.‏ وفيه دسيسة الاعتزال، وهو أنه‏:‏ لا يكون مؤمناً عالماً إلاَّ بالعمل، وأن العمل شرط في صحة الإيمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً‏}‏ قرأ الحرميان، والنحويان، والأعشى والبرجمي‏:‏ برفع الراء على القطع، ويختلس أبو عمرو الحركة على أصله، والفاعل ضمير مستكن في يأمر عائد على الله، قاله سيبويه، والزجاج‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ عائد على‏:‏ بشر، الموصوف بما سبق، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى على هذه القراءة‏:‏ أنه لا يقع من بشر موصوف بما وصف به أن يجعل نفسه رباً فيعبد، ولا هو أيضاً يأمر باتخاذ غيره من ملائكة وأنبياء أرباباً، فانتفى أن يدعو لنفسه ولغيره‏.‏ وإن كان الضمير عائداً على الله فيكون إخباراً من الله أنه لم يأمر بذلك، فانتفى أمر الله بذلك، وأمر أنبيائه‏.‏

وقرأ عاصم وابن عامر، وحمزة ولا يأمركم، بنصب الراء، وخرجه أبو علي وغيره على أن يكون المعنى‏:‏ ولا له أن يأمركم، فقدروا‏:‏ أن، مضمرة بعد‏:‏ لا، وتكون‏:‏ لا، مؤكدة معنى النفي السابق، كما تقول‏:‏ ما كان من زيد إتيان ولا قيام‏.‏ وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد، فلا للتوكيد في النفي السابق، وصار المعنى‏:‏ ما كان من زيد إتيان ولا منه قيام‏.‏

وقال الطبري قوله‏:‏ ولا يأمركم، بالنصب معطوف على قوله‏:‏ ثم يقول‏:‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا خطأ لا يلتئم به المعنى‏.‏ انتهى كلامه‏.‏ ولم يبين جهة الخطأ ولا عدم التئام المعنى به، ووجه الخطأ انه إذا كان معطوفاً على‏:‏ ثم يقول، وكانت لا لتأسيس النفي، فلا يمكن إلاَّ أن يقدر العامل قبل‏:‏ لا، وهو‏:‏ أن، فينسبك من‏:‏ ان، والفعل المنفي مصدر منتف فيصير المعنى‏:‏ ما كان لبشر موصوف بما وصف به انفاء امره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً، وإذا لم يكن له الانتفاء كان له الثبوت، فصار آمراً باتخاذهم أرباباً وهو خطأ، فإذا جعلت لا لتأكيد النفي السابق كان النفي منسحباً على المصدرين المقدر ثبوتهما، فينتفي قوله‏:‏ ‏{‏كونوا عباداً لي‏}‏ وأمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً، ويوضح هذا المعنى وضع‏:‏ غير، موضع‏:‏ لا، فإذا قلت‏:‏ ما لزيد فقه ولا نحو، كانت‏:‏ لا، لتأكيد النفي، وانتفى عنه الوصفان، ولو جعلت‏:‏ لا، لتأسيس النفي كانت بمعنى‏:‏ غير، فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه وثبوت النحو له، إذ لو قلت‏:‏ ما لزيد فقه وغير نحو، كان في ذلك إثبات النحو له، كأنك قلت‏:‏ ماله غير نحو‏.‏ ألا ترى أنك إذا قلت‏:‏ جئت بلا زاد، كان المعنى‏:‏ جئت بغير زاد، وإذا قلت‏:‏ ما جئت بغير زاد، معناه‏:‏ أنك جئت بزاد‏؟‏ لأن‏:‏ لا، هنا لتأسيس النفي، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدم القيام المعنى إنما يكون على أحد التقديرين في‏:‏ لا، وهي أن يكون لتأسيس النفي، وأن يكون من عطف المنفي بلا على المثبت الداخل عليه النفي، نحو‏:‏ ما أريد أن تجهل وأن لا تتعلم، تريد‏:‏ ما أريد أن لا تتعلم‏.‏

وأجاز الزمخشري أن أن تكون‏:‏ لا، لتأسيس النفي، فذكر أولاً كونها زائدة لتأكيد معنى النفي، ثم قال‏:‏ والثاني أن يجعل‏:‏ لا، غير مزيده، والمعنى‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهي قريشاً عن عبادة الملائكة، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح، فلما قالوا له‏:‏ أنتخذك رباً، قيل لهم‏:‏ ما كان لبشر أن يستنبئه الله، ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء‏.‏

قال‏:‏ والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر، وينصرها قراءة عبد الله‏:‏ ولن يأمركم، انتهى كلام الزمخشري‏.‏

‏{‏أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون‏}‏ هذا استفهام إنكار وكونه بعد كونهم مسلمين أفحش وأقبح، إذ الأمر بالكفر على كل حال منكر، ومعناه‏:‏ أنه لا يأمر بكفر لا بعد الاسلام ولا قبله، سواء كان الآمر الله أم الذي استنبأه الله‏.‏

وفي هذه الآية دلالة على أن المخاطبين كانوا مسملمين، ودلالة على أن الكفر ملة واحدة إذ الذين اتخذوا الملائكة أرباباً ثم الصابئة وعبدة الأوثان، والذين اتخذوا النبيين أرباباً هم اليهود والنصارى والمجوس، ومع هذا الاختلاف سمى الله الجميع‏:‏ كفراً‏.‏ و‏:‏ بعد، ينتصب بالكفر، أو‏:‏ بيأمركم، وإذْ، مضافة للجملة الإسمية كقوله‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ أنتم قليل‏}‏ وأضيف إليها‏:‏ بعد، ولا يضاف إليها إلاَّ ظرف زمان‏.‏